صلاح الدين عووضة يكتب.. فقد وظيفته
فقدها بقرارٍ سياسي..
بحث عن عمل آخر – وهو في حالة نفسية مُزرية – حتى فقد كثيراً من صحته..
صاحب بقالة (الجرورة) كان يُواسيه بعبارات رقيقة..
ثم يطلب منه أخذ ما يريد إلى أن تُفرج..
بعد أسبوعين – ولم تُفرج بعد – لاحظ تغيُّراً في تعامل صاحب البقالة تجاهه..
هو لم يمنعه شيئاً طلبه… ولكن سلامه صار مقتضبا..
وكذلك كلامه؛ إذ بات يجد عنتاً في التخلُّص من قيود كلامه المحكمة..
لم يعد يواسيه كما في السابق… ولا حتى يبتسم في وجهه..
بعد فترة أخرى حلت التكشيرة محل عدم التبسُّم..
ثم صباح يوم اعتذر له عن تجميد (كراسته) جراء ديون عليه هو نفسه في السوق..
ففقد مصدر عيشته؛ هو… وزوجته… وأولاده..
بلغ تذمر زوجته – المتذمرة أصلاً – مداه عقب مرور شهر على انقطاع (الشُكُك)..
فيوم يجود عليه الطيبون من زملاء عمله السابق بشيء..
وأيام لا يجودون؛ بل ولا حتى يسألون..
وكذلك الأمر بالنسبة لأصدقائه الذين بدأوا يتناقصون سريعاً..
حتى أعزّ أصحابه فترت علاقتهم به..
ثم فقد زوجته – وأبناءه – حين رجع عصر يوم بخفي حنين فلم يجد لهم أثراً..
أو بالأحرى؛ وجد فقط آثار ذكريات مُفعّمة بالشجن..
ثم وريقة مُهترئة كُتب عليها بخط يعرفه جيداً (لن أرجع… فلا تبحث عني)..
وحان الأوان الذي فقد فيه كل أعزائه… وزملائه… ورفاق دربه..
وعندما كان يسير ذات نهار – على غير هدي – استرعى انتباهه شيءٌ غريب..
فهو ليس له ظلٌ يتبعه… رغم الشمس السافرة في كبد السماء..
ورغم طوله؛ وقد كان أحد أسباب إعجاب زوجته به..
وتلفت نحو السائرين من حوله؛ فشاهد ظلاً ممدوداً يتبع كلاً منهم… ولا عجب..
تملّكه رُعبٌ مزلزلٌ لم يشعر بمثله طوال حياته..
جالت بخاطره أفلام الرُّعب الأجنبية كافة التي تحكي عن مسوخٍ بلا ظلال..
ولكنه ليس مسخاً أصيلاً… بل هو آدمي (مسخته) الظروف..
همَّ بسؤال المارة هؤلاء إن كانوا يرون ظله إلا أنه تراجع في آخر لحظة..
فقد خشي أن يُرمى بالجنون… وما أكثر مجانين زماننا هذا..
حين رأى رجلاً يهيم على وجهه – فَرِحاً – لملم أطراف شجاعته واقترب منه..
وما أن فرغ من شرح حكاية ظله له حتى انفجر الرجل ضاحكاً..
ثم غمغم بلسان ثقيل (يا عم أحمد ربنا أنه خلَّصك من همه)..
وما درى أنّ الرجل السعيد ذاك كان من (أهل المزاج) الهاربين من دنيا الراهن..
لم ينم ليلته تلك في انتظار الصبح على أحر من جمر الواقع..
انتظره ليرى إن كان ظله قد عاد إليه… أم غادر بلا رجعة… كحال زوجته..
جر رجليه صباحاً إلى (كشك) الجرائد… دون ظل..
أو ربما رجلاه هما اللتان جرجرتاه… دونما وعيٍ منه… ولا إرادة..
فهو ما عاد يدري… ولا يحس… ولا يشعر..
هناك سمع حديثاً عجيباً من زبائن المكتبة غلب على مألوف حديثهم كل يوم..
ومألوف حديثهم هذا لم يكن إلا عن الراهن الأليم..
قيل إن ظلاً طويلاً شوهد ضحى البارحة فوق حافة الجسر الشمالي الجديد..
وما قيل هذا قال كلٌّ منهم فوقه قولا..
ولكن لم يحد منهم أحدٌ عن جوهر قضية الساعة؛ الظل..
كان محض ظل..
بلا رجُل!.