خبير بأسواق المال العالمية يُشرِّح مشاكل أزمة الإقتصاد السوداني ومعالجتها
الخرطوم “تاق برس” حوار – المقداد سليمان – سبعة عشر عاماً من الخبرة في الأسواق المالية العالمية، عمل خلالها في عدد من المؤسسات الاقتصادية هوـــ عمرو زكريا عبدو ـــ الخبير الاقتصادي والمحلل المالي السوداني، الشريك المؤسس لـ(أكاديمية ماركت تريدر لدراسات أسواق المال)، (اليوم التالي) جلست إليه في حوار على هامش زيارته إلى البلاد، وقد تفضل بالإجابة عن الكثير من أسئله المستقبل الاقتصادي، فإلى تفاصيل الحوار..
لن ينهض الاقتصاد في ظل غياب الثقة في مؤسساته الحكومية والمالية
الطاقم الاقتصادي لحكومة رئيس الوزراء أمام تحد لا يحسد عليه
الوضع الاقتصادي متردٍ جداً وسيحتاج السودان معونات خارجية بدون شك
لدينا عجز في الميزان التجاري يقدر بـ”5″ مليارات دولار سنوياً
لابد من تقليص عدد البنوك العاملة في الدولة كخطوة أولى
* (39) شهرا.. هل الفترة كافية لمعالجة مشكلة الاقتصاد السوداني؟
الفترة الانتقالية في رأيي كافية لوضع سياسات اقتصادية، يمكن أن تعيد الثقة في أداء وسياسات الطاقم الإداري والتنفيذي، وهذا في حد ذاته إنجاز كبير يضع السودان في الاتجاه الصحيح لكي يحقق ذاته اقتصادياً، لا يمكن أن ينهض اقتصاد في ظل غياب الثقة في المؤسسات الحكومية والمالية.
* أذكر بعض التحديات التي يمكن أن تحول دون تعافي الاقتصاد؟
أكبر تحد يواجه تعافي الاقتصاد السوداني هو وجود اسم السودان في قائمة الدول الراعية للإرهاب، لأنه برغم رفع العقوبات الاقتصادية الأمريكية في أكتوبر 2017م، إلا أن المصارف والمؤسسات المالية الدولية، تمانع في التعامل مع السودان بشكل مباشر، وحتى في كثير من الأحيان تمتنع عن التعامل غير المباشر، وذلك يتم عندما يتعرض المواطن السوداني لغلق حسابه البنكي خارج السودان فقط لأنه يحمل الجنسية أو الجواز السوداني.
*هذا يعني أن وجود اسم السودان في اللائحة له تأثير؟
نعم .. وجود اسم السودان في هذه اللائحة حرم السودان من فرصة ذهبية للاستفادة من مبادرة مشتركة من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، لإعفاء الدول الفقيرة المدينة من الديون، البرنامج شمل (36) دولة، استفادت منه (33) دولة، وحرمت ثلاث دول منهم السودان برغم استيفاء السودان لكل المتطلبات، الدول الأخرى هي الصومال، وإثيوبيا، بالإضافة إلى حرمان البلاد من الكثير من البرامج التنموية التي كانت ميزانياتها مخصصة للسودان، ولكن إما تم إلغاؤها أو تحويلها لدول مجاورة.
*هذا الوجود في اللائحة حرمنا الكثير من مصادر التمويل؟
فعلاً.. حرم السودان من جميع مصادر التمويل التقليدي، ودفعه للقبول بأنواع تمويل باهظة الثمن، مما انعكس سلباً على قدرة الحكومة في التحكم في حركة الاقتصاد، وترك الأمر للسوق ولنظام مصرفي موازٍ ذي التكلفة المرتفعة، كما واجهت الحكومة السابقة عجزا في سداد ديون السودان مما جعل الديون تتضخم نتيجة الفائدة المركبة وغرامات عدم السداد إلى أكثر من (56) مليار دولار من أصل (17) مليارا، على سبيل المثال أحد القروض لمؤسسة تمويل الصادرات البريطانية كان بمبلغ (170) مليون جنيه استرليني في عام 1984م، اليوم المبلغ المطلوب سداده وصل إلى أكثر من (700) مليون جنيه استرليني، كما أن هناك تحديات داخلية اخرى تواجه الاقتصاد السوداني وتكمن في الفساد بأشكاله المختلفة من تمكين وتجنيب وعدم محاسبة، ولكن هذه في طريقها للزوال مع بدء حكومة د. حمدوك مزاولة أعمالها والجميع مستبسرون خيراً.
* كيف يمكن تجاوزها إذاً؟
لابد من العمل على رفع اسم السودان من قاىمة الدول الراعية للارهاب وذلك سيتطلب جهدا دبلوماسيا كبيرا، وأملنا بعد الله يكمن في حكومة د. حمدوك لما لمسناه من ارتياح دولي تجاهها وكذلك خبرة طاقمها وعلاقاتهم على الصعيد الدولي.
* ما المطلوب داخلياً؟
داخلياً على الحكومة تحفيز الإنتاج وتشجيع العمل الخاص وخاصة للشباب والشابات وأسرع طريقة لتحقيق هذا إزالة كل العقبات التي تحول دون ذلك كالضرائب والجبايات المتعددة ورسوم الخدمات من دون مقابل ملموس، تحفيز الإنتاج يتحقق أيضا بإيجاد أسواق خارجية وداخلية للمنتجين لبيع منتجاتهم بأقصر الطرق إلى المستهلك المحلي والعالمي، يلحظ أن أسواقنا خاصة الزراعية والحيوانية منها فيها خلل كبير في العلاقة بين المنتج والمستهلك وذلك بسبب تغلغل السماسرة فيها مما يحرم المنتجين من نصيبهم العادل من القيمة.
*وما الحل؟
العمل على تطوير بورصات يتقابل فيها المنتج بشكل مباشر مع المستهلك المحلي والدولي، ولدينا من السلع المطلوبة عالمياً ما يضمن نجاح هذه البورصات، على سبيل المثال سلع السمسم، اللحوم المبردة، القطن، والصمغ العربي، كما يمكن للسودان أن يكون رائداً في استحداث بورصة للأعلاف تتيح للمزارع الصغير أن يبيع محصوله بالأسعار العالمية بشكل مباشر للمشترين خاصة من دول الخليج العربي الذي يصل فيه الطلب على البرسيم فقط إلى حوالي مليون ونصف المليون طن سنويا.
*ما العوامل التي يمكن أن تحفز الاقتصاد خلال الفترة القادمة؟
استحداث أدوات تمويلية جديدة وهذه تعتمد على تطوير أسواق المال في الدولة التي يمكن أن تساهم بشكل فعال في تنشيط الحركة التمويلية للشركات بطريقة طرح أسهمها للاكتتاب العام، يمكن أيضاً جذب مدخرات المغتربين عن طريق تورق الذهب وبيعه كشهادات مدرجة في البورصة ويسمح لمالكها تبادلها بشكل حر بالسعر العالمي للذهب أو استخدامها كرهن عند البنوك مقابل تمويل ميسر، السماح بإدخال تقنيات حديثه للبلاد والعمل على تغيير نمط الاقتصاد من التقليدي إلى اقتصاد الرقمنة والتوكنة باستخدام تكنولوجيا البلوكشين التي تساهم في خفض التكاليف الإدارية بشكل كبير وتمليك القيمة لمنتجيها والسماح لهم بتداولها بنفس السهولة التي نتداول بها المعلومة رقمياً.
* متى يستقر الاقتصاد؟
استقرار الوضع الاقتصادي هو عبارة عن مشوار طويل يتضمن جوانب عديدة، في رأيي طالما بدأنا هذا المشوار في الاتجاه الصحيح وتم اتخاذ الإجراءات المطلوبة برغم صعوبتها للمضي قدماً في هذا الاتجاه، فهذا كفي لوصولنا للهدف في تحقيق استقرار اقتصادي متمثل في استقرار سعر الصرف، زيادة في الإنتاج ودخل الفرد، تحجيم التضخم وجعل السودان جاذبا بشكل عام لرأس المال الوطني والأجنبي.
* لابد من معونات في الوقت الراهن لتعافي الاقتصاد، هكذا يرى البعض.. ما هو رأيك كخبير اقتصادي؟
للأسف الوضع الاقتصادي مترد جداً وسيحتاج السودان معونات خارجية بدون شك. أولاً لدينا عجز في الميزان التجاري يقدر بـ(5) مليارات دولار سنوياً، لدينا ديون خارجية والتزامات تجاهها، لدينا حركة استثمارية في ظاهرها جيدة ولكنها تضر جداً بميزان المدفوعات في السودان، لدينا إحجام من المغتربين في التعامل مع النظام المصرفي لعدم ثقتهم فيه ولعدم تمكنهم من التعامل معه، وثالثاً للفرق الشاسع في سعر الصرف بين السعر الرسمي وسعر السوق الموازي.
* كيف يمكن التخلص من تركه النظام البائد الاقتصادية؟
هذه مهمة صعبة جداً لأن النظام البائد استخدم سياسة التمكين للتغلغل كالسرطان في جميع خلايا جسد الاقتصاد السوداني، ولوجود الكثير من منظومته المؤسساتية خارج الدولة، ذلك سيصعب تتبع الأموال وحركتها، نيجيريا على سبيل المثال قضت (25) عاماً في المحاكم السويسرية لتتمكن من استرداد بعض الأموال التي نهبها الجنرال أباتش، هاييتي قضت (15) عاماً كذلك.
*وأين الحل؟
البدء في منظومة اقتصادية جديدة مبنية على الحوكمة الجيدة والشفافية، لابد من سيادة دولة القانون لكي يطمئن أصحاب رؤوس الأموال على وجودها وبقائها في السودان.
*ما الطريق الأسرع لإنعاش الاقتصاد خلال الفترة المقبلة: الزراعة أم الصناعة أم التجارة؟
في رأيي يمكن التفكير بحلول ذات فائدة مركبة تخدم وتساهم في كل المجالات التي ذكرتها، صناعة اللحوم تخدم القطاع الحيواني، صناعة الغزل والنسيج تخدم القطاع الزراعي، وكلاهما يخدمان قطاع التجارة داخلياً وللصادر، ما أقصده هو لابد من تفكير ثلاثي ورباعي الأبعاد بخصوص كيفية النهوض بالسودان اقتصادياً.
*أيهما أولى بالعلاج أولاً.. ارتفاع أسعار السلع الاستهلاكية محلياً أم سعر الصرف؟
في رأيي أن الاثنين مرتبطان ببعضهما لحد كبير، لكن كلا منهما لديه حلول مختلفة، بالنسبة لسعر الصرف لابد من تسهيل تحويلات المغتربين، وتشجيع الإنتاج المحلي خاصة للسلع التي تساهم في عجز الميزان التجاري، تشجيع الصادر بكل الوسائل مثل إعفاء المصدرين الصغار من كل القيود حتى أول (50) ألف دولار حصيلة صادر مثلاً، أما بالنسبة لارتفاع الأسعار، فالحل في زيادة الإنتاج، وفتح المجال للشباب للدخول في القطاعات الإنتاجية، ويتم ذلك بتقليل التكلفة عليهم، للبدء في إنشاء أعمال حرة إنتاجية كالصناعات الصغيرة ومزارع الإنتاج بشقيه النباتي والحيواني، يمكن للدولة أيضاً إعفاء جميع الرسوم عن منتجي السلع الضرورية إلى مبلغ معين من صافي الأرباح مثلاً.
* إذا ما أتيحت لك فرصة أن تكتب روشتة للإدارة الاقتصادية الجديدة فماذا ستكتب فيها؟
ترشيد الصرف الحكومي وتقليص حجم البيروقراطية الحكومية، بحيث تكون حكومة رشيقة يتمركز دورها في سن القوانين الذكية وفي دورها الرقابي، الكثير من الأعمال التي تقوم بها مؤسسات حكومية يمكن أن يقوم بها القطاع الخاص بشكل أكثر كفاءة، وبتكلفة أقل، وذلك سيخلق فرص عمل أيضاً، بالاضافة للعمل على رقمنة الاقتصاد، لما في ذلك من تقليص للتكاليف، وزيادة كفاءة أداء المؤسسات الحكومية والخاصة، ذلك يتضمن أيضاً تفعيل دور الدفع الإلكتروني، والأهم الدفع بالموبايل لما في ذلك من فائدة على توسيع مظلة الشمول المالي، ولنا في كينيا أحسن مثال لذلك حيث تتم تسوية المعاملات التجارية بالدفع بالموبايل بما يعادل (65 %) من الناتج القومي، استخدام تكنولوجيا “البلوكشين”، في القطاع العقاري سيساهم في تثبيت ملكية الأراضي، وقطاع الرعاية الصحية يمكن ان يساهم في حفظ بيانات المرضى، في الزراعة الذكية لزيادة وضمان جودة المحصول للصادر، العمل على تطوير الاقتصاد التشاركي الذي يسمح للأفراد تحويل ممتلكاتهم كالسيارات إلى أصول مدرة للدخل، فضلاً عن العمل على استقطاب مدخرات المغتربين بتوفير البدائل الاستثمارية لهم في الدولة وخارجها.
* صندوق النقد الدولي توقع انكماش الاقتصاد السوداني بنسبة (1.3 %) في العام الجاري، هل بإمكان الإدارة الاقتصادية الجديدة فك هذا الانكماش في ما تبقى من العام؟
الاقتصاد هو أقرب إلى ناقلة نفط من كونه قاربا سريعا يسهل تحويل مساره خلال أسابيع، لابد من الصبر على الحكومة الجديدة، خاصة وأنها ورثت تركة مثقلة بالمشاكل المعقدة جداً داخلياً وخارجياً، علينا جميعاً التركيز على الاتجاه العام للخطوات البناءة للطاقم الإداري وأن نعطيهم المساحة الزمنية الكافية لينجزوا أهدافهم.
* ما الفترة التي يمكن بعدها الحكم على الإدارة الاقتصادية الجيدة بالفشل أو النجاح؟
لا يمكن تحديد فترة زمنية محددة، الأفضل تحديد اتجاه قياسات ومؤشرات اقتصادية مثل نمو الاقتصاد، الموقف المالي للقطاع المصرفي وسهولة التمويل، نسبة البطالة، استقرار نسب التضخم وأسعار الصرف كمثال.
* هناك حلول خارجية واخرى داخلية لإنقاذ الاقتصاد.. إلى أي تنصح الادارة الاقتصادية بالاتجاه؟
نهضة الاقتصاد ستعتمد على التحرك في كل الاتجاهات بجدية وبطارئية داخلياً وخارجياً، الطاقم الاقتصادي في حكومة د. حمدوك أمام تحد لا يحسد عليه، أحسن ما يمكن تقديمه لهم من مساعدة هو الصبر وتفهم أن الحلول ستأخذ وقتا.
* كيف يمكن للجهاز المصرفي أن يعيد الثقة التي فقدها؟
في رأيي لابد من تقليص عدد البنوك العاملة في الدولة كخطوة أولى عن طريق دمجها والعمل على استحداث صندوق حكومي لشراء القروض الهالكة لإعادة الملاءمة المالية للبنوك لكي يستعيدوا دورهم الطبيعي في تمويل قطاع الأعمال، ويمكن ربط ذلك باستحداث أدوات تمويلية ذات تصنيف ائتماني مرتفع لجذب ودائع الحمهور لداخل النظام المصرفي.
* ما الطريقة المُثلي لإدارة القطاع المصرفي خلال الفترة القادمة برأيك؟
خريطة الطريق للمصارف أيا كانت لابد أن تتضمن تطابق البنوك السودانية مع البنوك العالمية وخاصة الأمريكية في مسائل الامتثال والبرامج الحاسوبية المطابقة واستعادة العلاقات مع البنوك المراسلة، كما لابد من استحدات قطاع الصيرفة التقليدية بجانب الصيرفة الإسلامية وجعل الخيار مفتوحاً للجمهور والمؤسسات ليختار ما هو مناسب له.
* أخيراً وليس آخراً؟
لابد من النظر في دعم السلع بشكله الحالي الذي يحمل الشريحة الأكثر فقراً المجتمع تكاليف استهلاك الشريحة الأكثر استهلاكاً والتي في الأغلب لا تحتاج لذلك الدعم من الأساس. لابد من اختراع آلية دعم ذكي من خلالها يستفيد من يستحق.