“شيان” مدينة تستقبل المسلمين وانطلق منها طريق الحرير وتحوى أسرار “التيراكوتا”
الصين “تاق برس” – شيبان – عبد الرحيم بشير – لا تعد مبادرة “الحزام والطريق” وليدة اللحظة، ولكنها امتداد لجسر امتد من الصين إلى مصر ودول الشرق الأوسط وأوروبا منذ آلاف السنين، شهد تلاقيا فكريًا وثقافيًا، جنبًا إلى جنب مع البضائع المختلفة الصينية التي كانت تسافر عبر الطرق الوعرة والبحار والمحيطات عالية الأمواج إلى الجانب الآخر من العالم القديم، وذلك قبل أن تغلق الدولة العثمانية – التي سيطرت على عدة بلاد عربية وإسلامية – طريق الحرير في القرن الخامس عشر إلى الأبد، حتى أحيا الفكرة الرئيس الصيني شي جين بينج في عام 2013، عندما أعلن مبادرة الحزام والطريق ودعا مختلف دول قارات العالم القديم للانضمام إلى المبادرة.
في مدينة شيان عاصمة محافظة شانشي وسط شرق الصين، وعاصمة الصين لآلاف السنين، تستطيع أن تشتم عبق التاريخ في كل جنبات المدينة التي كانت نقطة انطلاق طريق الحرير القديم، من الشرق الصيني إلى الغرب العربي والإسلامي والأوروبي من بعد.
“تاق برس” رصدت الأجواء التاريخية في نقطة انطلاق طريق الحرير بمدينة شيان بالكلمة والصورة، وفي هذا التقرير نقدم معلومات للقارئ قد يقرأها للمرة الأولى عن نقطة انطلاق طريق الحرير الذي كان مسرحًا لأحداث تاريخية غيرت وجه العالم.
المسجد الكبير شاهد على علاقة الصين القوية بدولة الخلافة الإسلامية
أول ما يلفت الانتباه في المدينة التاريخية، المسجد الكبير الذي بناه لي تشي الإمبراطور الثالث في مملكة أسرة تانج الصينية (618 ـ 907 م)، هدية إلى التجار المسلمين الذين نشطوا على طول طريق الحرير في ذلك الوقت، وإكرامًا لخليفة المسلمين الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه، حيث سمح وقتها للمسلمين من عرب وفرس بالإقامة في الصين لأنه لمس التقارب الكبير بين قيم الدين الإسلامي الحنيف، وتعاليم الثقافة الصينية التقليدية خاصة الكونفوشيوسية، والتي كانت العمود الفقري للثقافة الصينية.
بل وصل الأمر في بداية القرن التاسع إلى وجود مجتمعات مسلمة، قائمة تعيش وتتعامل وفق مبادئ الشريعة الإسلامية في المدن الساحلية الصينية مثل مدينة قوانجتشو، ويتم تعيين قضاة مسلمين لهم من قبل الملك الصيني، وهذا ما سمح بتعزيز التجارة عبر طريق الحرير، خاصة تجارة الحرير، الذي كان يستخدم كعملة بدل العملة النحاسية الملكية في المناطق الحدودية.
ولا يزال المسجد يفتح أبوابه منذ 13 قرنًا من الزمان أمام المسلمين، خصوصًا أنه يقع في منطقة وسط المدينة ملاصقة لحي المسلمين، الذي يزخر بعدد كبير من مطاعم الحلال، وهناك تقام الاحتفالات بأعياد الفطر والأضحى، كما تنظم موائد إفطار رمضانية كل يوم للصائمين.
تيراكوتا مقبرة الجنود وأسرار اللعنة الصينية
هناك مثل صيني يقول إذا لم تزر مقبرة تيراكوتا أو جيش الطين، فإنك لم تزر شيان، حيث تقع المقبرة على مساحة 45 كلم مربعًا وهي عبارة عن جيش كامل من قرابة 9000 جندي مصنوع من مادة عبارة عن مزيج من الطين والفخار والخشب، معهم أسلحتهم وعدتهم الحربية، أمر الإمبراطور الصيني تشين شي هوانج بإقامتها في حياته قبل 2200 سنة لكي تهب للدفاع عنه في حالة وجود غزو من الأعداء بعد مماته، نظرًا لأن مقبرته تقع أسفل مقبرة جيش الجنود بعمق عشرة أمتار تحت الأرض، مما يؤكد أن الصينيين القدماء كان منهم من يعتقد بوجود حياة أخرى بعد الموت، خصوصًا أنه أول إمبراطور يوحد الصين.
ووفقًا للمؤرخين، أمر الإمبراطور تشين شي هوانج بألا يكون تمثال جندي متشابها مع آخر، وهذا ما تم بالفعل ببراعة مثيرة للدهشة، حيث يقول المؤرخون إنه قد شارك ما يقارب 700 ألف شخص في عملية بناء آلاف التماثيل الطينية غير المتشابهة بملامح دقيقة لدرجة مدهشة، ووضعها في أفران تصل درجة حرارتها لألف درجة مئوية، ثم تركها لتبرد ثم تلوينها وتزيينها، وكان الهدف منه هو مساعدة الإمبراطور في بناء إمبراطورية في الآخرة كما يعتقد البعض، أو لحمايته في الآخرة.
مزارع بسيط اكتشف المقبرة
ويقول أحد مسئولي المتحف، إنه تم اكتشاف المقبرة عن طريق المصادفة عام 1974 م من قبل المزارعين المحليين عندما كان يحفر بئر ماء لري أرضه حيث اكتشف أحد تماثيل الجنود، مضيفًا أن الحكومة الصينية رفضت الحفر والوصول إلى مقبرة الإمبراطور نظرًا لوجود غازات سامة وضعت بين طبقات الأرض لقتل كل من يحاول التسلل إلى المقبرة وسرقة محتوياتها، في طريقة مشابهة لما كان يقوم به المصريون القدماء في مقابرهم، حيث من المعروف أن “لعنة الفراعنة” تصيب كل من يدخل مقابر المصريين القدماء وينبشها.
وقد تم اكتشاف ثلاث حُفر حتى الآن، وتضم هذه الحفر ما يقارب الـ9000 مُقاتل مع إداريين وموسيقيين، و130 عربة بـ520 حصان، بجانب 150 حصان للفرسان، ويتوقع الخبراء أن هناك العديد من الحفر التي تحوي المزيد من جنود التيراكوتا ولم تُكتشف بعد، وتخشي الحكومة الصينية من حفر المزيد حتى لا تتهدم، مثل الهرم الترابي الذي يبلغ ارتفاعه 76 مترًا، بمساحة 350 مترا مربعا، لأنهم يخشون أن يقوموا بتدميره عند محاولة اكتشاف ما يحتويه.
أنهار الزئبق
قال المؤرخ الصيني الكبير سيما كيان في كتابه الشهير “شيجي”، إن الإمبراطور الأول للصين الموحدة، دُفن مع قصور وجنود وإداريين وموسيقيين وأوانٍ فخارية قيمة، والعديد من الأشياء المدهشة وسط 100 نهر مُطعّم بالزئبق، وقد اكتشف العلماء بالفعل وجود نسب كبيرة من الزئبق في تربة المنطقة المحيطة بالضريح، مما أعطى مصداقية لكلام المؤرخ الصيني .
ويقول مسئول المتحف إن الجنود كانوا يحملون فى أيديهم أسلحة حقيقية ويظهر ذلك في تحفزهم ووضعية أيديهم، مضيفا أن تلك الأسلحة كانت متطورة ومتقدمة جدا وقتها وفقا للأبحاث التي أجريت عليها لاحقًا، حيث كانت للسهام قدرة عالية على اختراق أي درع فى ذلك الوقت، موضحًا أن أسرار “محاربي التيراكوتا” لم تتكشف بالكامل، وربما يستغرق الأمر مزيدًا من الوقت حتى تبوح مقبرة الإمبراطورِ الأول بكامل أسرارها المدهشة.
خوف الإمبراطور
كان الإمبراطور تشين شي هوانج يخشى أن يتسبب موته في ضياع الأمجاد التي حققها في توحيد الصين في إمبراطورية واحدة للمرة الأولى في التاريخ، لذلك فقد أنجب 20 ولدًا يحكمون الصين خلال العشرة آلاف سنة التالية لحكمه، ولكنه قبل أن يتوفى أوصى بأن يتولى أحد أبنائه الحكم من بعده، لكن خلاف حدث بين أركان النظام وقتها أدى إلى انهيار الإمبراطورية الأولى بعد عدة سنوات، لكنه اعتقد أنه كما أن جيش الجنود الطيني أو “التيراكوتا” قادر على حمايته بعد الموت، يستطيع القيام من تحت التراب للدفاع عن الإمبراطورية وضمان استمرارها، ولعل ما حفظ المقبرة حتى الآن أن الإمبراطور حافظ على سرية مكانها وتقول الأساطير إن العمال كان يتم اقتيادهم معصوبي العينين إلى مكان المقبرة التي تبعد 50 كلم عن شيان لبنائها الذي استغرق 40 سنة.
مبعوث الإمبراطور
مدينة شيان كانت نقطة انطلاق جان بينج المبعوث الخاص للإمبراطور الصيني الرابع في أسرة هان الشرقية (25 م ـ 220 م) إلى الملكة كليوباترا في مصر، مرورًا بمنطقة الخليج وممكلة فارس وقتها، وصولاً إلى روما مقر حكم الإمبراطورية الرومانية، حيث دشن أكبر اتفاقية تجارية في التاريخ لإنشاء طريقى الحرير البري والبحري اللذين كانا يلتقيان في مدينة الإسكندرية عاصمة مصر وقتها قبل أن ينطلق إلى محطته الأخيرة في روما.
الإسكندرية ملتقى طريقي الحرير البري والبحري
يمر الطريق البري من شرق الصين إلى غربها ثم دول وسط آسيا والعراق وسوريا حتى ساحل شرق البحر المتوسط ثم يهبط جنوبًا إلى سيناء ويسير بمحاذاة البحر إلى الإسكندرية، فيما ينطلق الطريق البحري من شيان إلى جنوب غرب الصين ومن باكستان يبحر إلى المحيط الهندي ثم مضيق باب المندب مرورًا بالسودان ثم خليج السويس، ثم برًا من مدينة السويس إلى الإسكندرية أيضًا.
ويقول حسين إسماعيل الباحث في الشئون الصينية، إن الملكة كليوباترا كانت ترتدي الحرير الصيني، وقد انتقلت صناعة الحرير من الصين إلى مصر وقتها عبر خبراء صينيين، وعملت مصانع الغزل والنسيج في الإسكندرية في صناعة الحرير بالتكنولوجيا الصينية وقتها، كما انتقلت أيضًا صناعة الخزف والسيراميك في تصميم أواني الطبخ والزهور وخلافه.