عبدالله رزق أبوسيمازه يكتب- عطَالة الصحفيين وانهيار مملكة الصحافة الورقية

318

تهتم الأوساط السياسية والإعلامية والأكاديمية ، في الغرب، بمؤشر العطالة  (البطالة عدم توفر العمل للقادرين وللراغبين، حسب توضيح ويكيبيديا)، وتَتَّبَعه عقب كل حدث اجتماعي أو اقتصادي هام، تحسباً لما قد  يستطبنه من احتمالات تتصل بالاضطرابات السياسية والاجتماعية . وعلى الرغم من عدم توفر إحصاءات دقيقه حول العطالة التي ضربت الصحفيين، على نحو غير مسبوق ولأسباب غير كلاسيكية، إلاًّ أنها تقدم مؤشراً مهماً على عمق  ما تم التواضع عليه بالأزمة الوطنية  الشاملة، وفي ناحيتها الاقتصادية، بالذات، التي تعيشها البلاد ،وشمولها لكافة القطاعات .فبِطَالة الصحفيين ليست أمراً طارئا وجديداً، وربما تعود جذورها إلى ما لا يقل عن عشر سنوات، شهدت توقف عدد من الصحف ،مثل: الأيام، السياسي ، الخرطوم ،أول النهار، ذا سيتزين…..

ومع تفاقم الأزمة الاقتصادية والسياسية، في السنوات الخمس الماضية،توقف المزيد من الصحف:المواكب، المجهر السياسي ،آخر لحظة..الخ ،وفقد العشرات من العاملين وظائفهم، وانضموا  أفواجاً، في أول ظاهرة من نوعها،إلى جيش العاطلين عن العمل..

وإذا استمرت الأوضاع على ما هي عليه، فإن ما تبقى من صحف ، لازالت تصارع من أجل الاستمرار على قيد الحياة الورقية، مصيره إلى زوال . ويبقى خيار الصحف المتوقفة المتاح ،هو العودة إلى الصدور أونلاين، بأقل تكلفة،  لكنه ليس الخيار الأسهل: إذ سيتعين عليها، كصحافة عابرة للحدود، وكمشروع ربحي، أن تنافس على مستوى عالمي باستدامة السبق الصحفي، وبمحتوى قادر على المنافسة في السوق الافتراضية، الالكترونية، ومن ثم اجتذاب الإعلان، كمصدر إضافي للعوائد المالية. إذ لا مناص للصحافة، حتى في الفضاء الإسفيري من مواجهة معضلة التمويل، تمويل انتاجها، أياً كانت تكلفته وإن كان مقابل عائد صفري.

لا تستطيع نقابة الصحفيين السودانيين، من واقع التزامها بالمساهمة، في تنظيم وترقية المهنة، شكلاً ومضموناً، وفق ما نص عليه نظامها الأساسي ، أن تتجاهل الدور الذي ينتظرها في إنقاذ المهنة نفسها، وإصلاح مؤسساتها ، جنباً إلى جنب اهتمامها بترقية أوضاع العاملين فيها، من الصحفيين بضمان عائدٍ مجزٍ، يوفر لهم حياة كريمة .

تعود أزمه الصحافة، بانعكاساتها السالبة، على الصحفيين ،في ظل الأزمة الاقتصادية، خاصة، التي عاشتها البلاد في السنوات الأخيرة، من حكم الرئيس المقلوع، إلى عوامل عدة. فالي جانب البيئة السياسية والقانونية، القائمة على الكبت والقمع، حيث طورت الانقاذ خلال العقود الثلاثة الماضية تقنيات متقدمة من الضبط والسيطرة  على صناعة الصحافة ووضعها في خدمة النظام،بشكل استحال معه، لحد بعيد، وجود صحافة مستقلة. تعاني  صناعة الصحافة  من  زياده تكلفة الانتاج، التي تتزايد، باضطراد،  تبعاً للتضخم وتدني قيمة العملة المحلية مقابل الدولار ،ومايترتب على ذلك من تآكل دخول العاملين بأجر، بمن فيهم الصحفيون، وقراء الصحف من العمال والموظفين ،والطلاب. ثم شح الإعلان ،وضعف عائد المبيعات ،وبروز الصحافه الالكترونية، كمنافس وبديل للصحافة الورقية. ومع ازدهار السوشيال ميديا ،والقنوات التلفزيونية، العاملة على مدار الـ 24ساعه،  تخلفت الصحافة الورقية كثيراً عن تغطية الأحداث.

وقد انعكس ذلك في تضاؤل قدرة المؤسسات الصحفية على الوفاء بالتزاماتها تجاه أجور العاملين، بمن فيهم الصحفيون، ومن ثم التوقف عن الصدور .وفي السنوات الأخيرة سنوات الانتقال التي تلت اقتلاع رئيس نظام الانقاذ، في اطار ثورة ديسمبر المجيدة،  تفاقمت الأزمة الاقتصادية، أكثر فأكثر، وتوقف العديد من الصحف، وتشرد العاملون بها، فيما جنحت أخرى- وهي تكابد من أجل البقاء-  إلى التخلص من بعض العاملين،  في مواجهة المطالبة المضطردة، والمتزايدة، بزيادة الحد الأدنى للأجور، بدلالة التضخم المتصاعد، وسمحت للصحفيين بالعمل من منازلهم، لتفادي دفع تكلفة الترحيل ،والعمل بدوام الحد الأدنى من العاملين، الامر الذي من شأنه أن ينعكس سلباً في الاداء الاجمالي للصحف.

إن مواجهه قضية أجور الصحفيين في القطاع الخاص، بناء على عرض الحال السابق، لايمكن عزلها عن أوضاع المؤسسات الصحفية، التابعة للقطاع الخاص، والآيلة للانهيار. ولربما لا يشمل هذا التعميم الأوضاع في القنوات واذاعات ال (إف .إم) الخاصة والصحافة الالكترونية.

وقد لاحظ الأستاذ محمد علي خوجلي، أن الصحفيين والإعلاميين العاملين بالدولة ،يتمتعون  بنظام أفضل ،فيما يخص شروط الخدمة والأجور، مما لزملائهم في القطاع الخاص . ففي حين تُعيِّن الدولة الحد الأدنى للأجور، بما في ذلك تعديل الأجور والعلاوات والترقيات ،وتلتزم بها، فإن لجنه ثلاثية، تتكون من ممثلين لاتحاد نقابات عمال السودان، واتحاد أصحاب العمل ووزارة العمل ،ممثلة للحكومة، هي التي  يناط بها تحديد الأجور للعاملين في القطاع الخاص. وبالتالي ، فإن قضية أجور الصحفيين تتطلب العودة، ثانية، إلى منصة التفاوض الثلاثي . ولا يتعلق الأمر، هذه المرة، بالأجور وبيئة العمل وشروط الاستخدام حسب، وإنما ببحث سبل انقاذ المهنة نفسها، من التردي والانهيار. يقتضي الأمر مواجهه الدولة بواجبها في دعم الصحافة، كجزء من دعم عملية الانتقال والبناء الديمقراطي، عبر التسهيلات  المالية ،والاعفاءات الجمركية، والضريبية،  على مدخلات الإنتاج ،والتوزيع العادل للإعلان ،وتسهيل الوصول للمعلومات…الخ

إن مشكله أجور الصحفيين التي تطرح نفسها ، هذه الأيام، كخط دفاع لحمايتهم من التشرد والفاقة، ليست  وليدة الراهن، بابعاده السياسية والاقتصادية، هي الأخرى ،ولربما ساهم غياب التنظيم النقابي الفاعل في ميدان الدفاع عن حقوق العاملين، في حجب المشكلة، أو طمس حجمها ومعالمها. ويخلص خوجلي، الخبير النقابي، من تَتَبُّعِه لهذه المسألة ، في كتابه “المسكوت عنه في اصلاح الخدمة المدنية في السودان”،  ما يعتبره أصل القضية ، منذ أن طرأت على الساحة في العقد الأول من الألفية الثانية ،ويتمثل  في عدم التزام الشركات والمؤسسات الصحفية والإعلامية، بلائحة المجلس القومي للصحافة والمطبوعات لعام 2008 ،من جهة، وعدم إلزامية لائحة الحد الأدنى للأجور وشروط الخدمة، من الجهة الأخرى. ومن ذلك على سبيل المثال:-

-أن الاتفاقية الجماعية لمعالجة الأجور في القطاع الخاص (2000-2016) ،سرت على الصحافيين، ولكن لم تطبق ولم يسع المستفيدون لإنفاذها .

– أن  الاتفاق الثلاثي بشأن المنحة الشهرية طبق في عدد قليل من المؤسسات الصحفية الاعلامية .

-عدم تطبيق مجلس الصحافة والمطبوعات للائحة عام 2017 ، ولقراره القاضي بتعيين الحد الأدنى للأجور، بمبلغ 1500 جنيه ،عامئذ.

 يجدر بالانتباه، أن هذه الورشة، الخاصة بأجور الصحفيين، تنعقد  في وقت يشهد تنامي حركة  مطلبية  واسعة، ترافقها إضرابات عن العمل في بعض القطاعات، ، تتمحور حول  مطلب زيادة الحد الأدنى للأجور، تضم ،حتى الآن، المعلمين وأساتذة الجامعات وفنيي الإرصاد الجوي، وموظفين في أجهزه الدولة المختلفة، وتتراوح مطالب الحد الأدنى للأجور بين 60 الف جنيه للمعلم ،و550 الف جنيه للأستاذ الجامعي .وأياً، كانت الزيادة التي ينبغي أن يطالب بها الصحفي، مقدرة بتكاليف المعيشة، وبالتغير المضطرد في سعر العملة، فأنه لابد من الاخذ في الاعتبار، شمول الأجر المتفق عليه، تكلفه الترحيل ،في حالة عدم  التزام المؤسسة الصحفية بترحيل العاملين، من وإلى مقر عملهم.

whatsapp
أخبار ذات صلة